- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
عبادة القلب :
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني والتسعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والحديث اليوم عن عبادة القلب.
لا شك أن عبادة الظاهر يعرفها معظم الناس، وهي موضوع دروس كثيرة في أكثر المساجد, ولكن عبادة القلب مهمة جداً، لأنه إذا استقام القلب استقامت الجـوارح .
لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه.
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ ، ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ من لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ ))
ولأن الله عز وجل يقول:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾
(( عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ, وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ, فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ, وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات,ِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ, أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ, أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً, إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
الإخلاص عبادة القلب :
عبادة القلب، وننطلق من قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) ﴾
اعبد الله في أعضائك وجوارحك, وكسب مالك وإنفاق مالك, وتربية أولادك وعلاقاتك, وفي أفراحك وأتراحك, وفي حلك وترحالك, اعبد الله مخلصاً، والإخلاص عبادة القلب.
واجبات عبادة القلب :
قال: هناك عبادة واجبة ، فالمتفق على وجوبه الإخلاص، والتوكل, والمحبة, والصبر, والإنابة, والخوف, والرجاء, والتصديق الجازم, والنية في العبادة، هذه واجبات عبادة القلب.
لا بد من أن تكون مخلصاً، ولا بد من أن تتوكل على الله، ولا بد من أن تحب الله, وأن تصبر على قضائه وقدره, وأن تنيب إليه, وأن تخاف منه, وأن ترجو رحمته, وأن تصدق بكلامه وكلام أنبيائه، أن تنوي في العبادة التقرب إليه، لئلا تكون العبادة عادة.
كيف نميز العبادة عن العادة؟.
الحقيقة: الإخلاص شيء والنية في العبادة شيء آخر، نية العبادة تفرِّقها عن العادة، الإنسان حينما يألف العبادات يفعلها وكأنها عادات، يفعلها ويتأثر بها، يفعلها ولا يرقى بها، فإذا نوى في عباداته التقرب إلى الله عز وجل تكون هذه العبادة كاملة، بل إن بعض الناس يقول لك: الصلاة رياضة والصيام صحة، هذا كلام خطير، لو أنك انبعثت إلى الصلاة من أجل صحة جسدك، إذاً ليست هي عبادة، حينما تصلي هناك نتائج إيجابية كبيرة جداً من الصلاة، أما حينما تنوي بالصلاة لتروِّض جسمك فجعلتها عادة ولم تجعلها عبادة, النية مطلوبة ، لذلك علماء العقيدة والفقهاء رجّحوا أن تتلفظ بالنية مع أنها من عمل القلب، ولكن التلفظ بها يذكِّرك بهذه النية, بل إن السلف الصالح -هل تصدقون- كان أحدهم إذا فتح دكانه, يقول:
نويت خدمة المسلمين.
انقلبت تجارته إلى عبادة.
طبيب دخل إلى عيادته, إذا قال: يا ربِّ وفِّقني لمعالجة هؤلاء المسلمين وشفائهم من أمراضهم وتقريبهم منك، كأنه يصلي في عيادته.
لو محامٍ دخل إلى مكتبه فقال: يا ربي هيِّئ لي إنساناً مظلوماً يكون صادقاً معي، وأبعدْ عني الإنسان الظالم الذي يريد أن يستخدم علمي ليأخذ ما ليس له, هذا المحامي مكتبه أصبح مسجداً، أصبحت حرفته عبادة.
لو مدرس لم يربط بين دخله القليل وبين تعليم الطلاب، أي لم يعلِّمهم على قدر معاشه، نوى بحرفته خدمة المسلمين، وتعليم أبنائهم، وأن يكون قدوة لهم، أصبح تدريسه عبادة.
تاجر جاء ببضاعة جيدة وسعّرها بسعر معتدل ونوى بها خدمة المسلمين، أصبحت تجارته عبادة، المنافق عبادته عادات لا قيمة لها والمؤمن عاداته عبادات, فلذلك كي نميز العبادة عن العادة لا بد من النية، أنوي أن أصوم رمضان تقرباً إلى الله عز وجل، أنا أصلي لأن الله أمرني بالصلاة، لا أفكر أبداً أن هذه الصلاة تريِّض جسمي وتخفف وزني وتنشطني, هذا بحث آخر.
ما الفرق بين الإخلاص والصدق؟
هناك إخلاص وهناك صدق؛ الإخلاص ألاّ يكون المطلوب منقسماً، أي مطلوبك ليس مع جهات، أنت ترضي زيداً وعبيداً وفلاناً وعلاناً وترضي الله، لست مخلصاً، ينبغي أن يكون المطلوب واحداً هو الله:
أما فلان له عليّ يد يجب أن أرضيه، وفلان قوي أحتاجه في المستقبل سأزوره، فالمقصود متعدِّد، فلست مخلصاً، أما المؤمن فمقصوده هو الله وحده، لا إله غيره، هذا الإخلاص عدم انقسام المطلوب، أما الصدق عدم انقسام الطلب، طالب الآخرة, وطالب الدنيا، وطالب الراحة, وطالب السمعة, وطالب المجد، فالطلب انقسم، فالصدق عدم انقسام الطلب، أما الإخلاص عدم انقسام المطلوب.
الأخطار التي تحدق بالإنسان لا تعد ولا تحصى :
الواجبات القلبية هي: الإخلاص, والتوكل, والمحبـة, والصبر, والإنابـة, الرجاء, والتصديق الجازم, والنية في العبادة.
نحن ألِفنا أن نفعل واجبات الجسد، وقد يضيق قلبنا، قد لا نسعد ببعض عباداتنا لأننا أهملنا عبادة القلب، طبيعة الحياة المعاصرة فيها أخطار صحية، وهناك تلوث عام, هناك أخطار السير، هناك أخطار أن تُتهم بتهمة أنت بريء منها، هناك سيوف مسلّطة على الإنسان, هكذا شاءت حكمة الواحد الديّان، فالتوكل يريحك من هذا الضغط.
إذا أردت أن تعدِّد الأخطار التي تحدق بالإنسان لا تُعد ولا تُحصى, أبسطها:
عامل بمطعم من أرقى المطاعم، من أنظف المطاعم, عنده موظف يحمل فيروس التهاب الكبد الوبائي، هذا مرض قاتل، ويكفي ألا يبالغ في تغسيل يديه عقب دخوله للحمام حتى يصيب ثلاثمائة إنسان من رواد هذا المطعم بمرض التهاب الكبد الوبائي, دخلت مطعماً, وأكلت طعاماً حلالاً, ودفعت ثمنه من كسبك الحلال، فهذا خطر، الأخطار التي تهدد الإنسان لا سيما في هذا العصر لا تعد ولا تحصى، دخل إلى الحمام, وفي أرض الحمام ماء, ولم يلبس حذاء، ومسك التيار الكهربائي يموت فوراً، فهناك أخطار كبيرة جداً، كيف نسعد مع هذه الأخطار؟ بالتوكل، الأمر بيد الله، أنا آخذ بالأسباب, وانتهى الأمر، وعلى الله الباقي.
من عبادات القلب :
1- الصبر مثلاً من عبادات القلب.
أخ كريم سألني: إذا أصيب إنسان بمصيبة وتألم منها، هل هذا الألم يلغي صبره؟ قلت له: لا، نحن بشر، وتجري علينا كل خصائص البشر، فالإنسان إذا فقد ابنه يتألم ألماً شديداً، وهذا الألم لا يلغي صبره، ذلك لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما مات ابنه بكى.
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ, وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِبْرَاهِيمَ, فَقَبَّلَهُ, وَشَمَّهُ, ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ, وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ, فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَذْرِفَانِ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا بْنَ عَوْفٍ, إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضي رَبُّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
فالإنسان قد يتألم لضيق مادي، وقد يتألم لمرض مؤلم، وقد يتألم لولد فقده، هذا الألم لا يلغي الصبر، أما الصبر أن تقول: الحمد لله رب العالمين.
الإمام أحمد يقول: ذُكر الصبر في تسعين موضعاً في القرآن, وأعظم آية تبين منزلة الصبر عند الله قوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ
وهناك آية كريمة يقرؤها الإنسان يقشعر جلده، لما ربنا قال:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
إنسان يصاب بمصيبة؛ يشكو ويبكي ويصيح ويتشكى ويتبرم، وإنسان آخر مصيبته أشد وأقوى تراه ساكتاً.
قصة فيها عبرة :
أخ طبيب حدثني عن قصة مستشفى, دخله مريض معه ورم خبيث في أمعائه، يبدو مؤمناً، قال لي: عجيب! كلما دخل عليه زائر, يقول له: اشهد أني راض عن الله، يا ربي لك الحمد, قال لي: وجهه منير، لا يتبرم ولا يسخط, يتهافت الأطباء إلى خدمته، ما من واحد دخل إلى غرفته إلا وشعر بالراحة، رائحة الغرفة عطرة، كلامه طيب، مستبشر، وبعد يومين توفاه الله عز وجل على أحلى حال، لحكمة بالغة بالغة أرادها الله عز وجل, جاء بعده مريض لهذه الغرفة, مصاب بالمرض نفسه، سباب شتام، وجه أسود مكفهر، نفسية غريبة جداً، كلام قاس، كلام كفر، لا أحد يدخل عليه، من شدة رائحة غرفته التي لا تقابل، وبعد يومين توفي المريض، فالأطباء في المستشفى والممرضون رأوا نموذجين لمرض واحد، وهذا معنى قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))
وليس ذلك لغير المؤمن، فللصبر في القرآن الكريم تسعون موضعاً.
لكن هناك صبر جميل.
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ –قَالَ- فَمَاتَ, وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ, فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ, هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ, فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ, قَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ, وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ, وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ, قَالَ: فَبَاتَ, فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ, فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ, أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ, فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا كَانَ مِنْهُمَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا, قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ))
هذا صبر.
والصورة المقابلة: أعرف رجلاً مات ابنه في الخامسة عشرة، ترك الصلاة وكأنه ارتد عن الدين، لأن الله عز وجل قبضه, فالصبر دليل الرضا, السخط حرام، ولا خلاص منه إلا بالرضا.
الإمام الشافعي كان يمشي وراء إنسان يطوف حول الحرم، قال الرجل: يا ربي هل أنت راض عني؟ فقال له الإمام الشافعي: وهل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: يا سبحان الله من أنت؟ أنا أرجو رضاه، وتقول: أرضى عنه؟ كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه!؟ قال: يا هذا إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
والبطولة: أن ترضى عن الله في الامتحان، أن ترضى عن الله في المصيبة، أما أن ترضى عن الله وأنت في بحبوحة, هذا شيء بديهي لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
وفي الأثر:
والإنسان عندما يقول: الحمد لله رب العالمين, فقد نجح في الامتحان، والصبر عند الصدمة، الصبر مع تلقي الخبر، لكن بعد حين سوف تصبر مقهوراً.
هناك عوام لهم كلمات -والعياذ بالله- شيطانية، يقولون: ما بعد الصبر إلا المجرفة و القبر, هذا شيطان يتكلم.
أما الصبر عند الله:
﴿
﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ﴾
﴿
إلهٌ يأمرنا أن نصبر، يأمرنا أن نرضى بقضائه وقدره، هذا النبي الكريم الذي قال الله عنه:
2- ومن عبادة القلب التوكل، والتوكل فيه أمر.
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ
أحياناً يقول لك أخ: خائف، تعبد من؟ تعبد من بيده كل شيء، وهذا الإله العظيم الذي تعبده, ألا تعتقد أنه يحميك؟ ألا تعتقد أنه يدافع عنك؟ .
أضرب مثلاً: شاب دعي إلى الخدمة الإلزامية, تعامل مع رتبة أعلى منه بقليل, وهددَّته هذه الرتبة، وكان أبوه قائد الجيش، أمعقول أن يبكي؟ أمعقول أن ينخلع قلبه من الخوف؟ معنى ذلك أن في عقله خللاً، أنت تعبد الله، والله بيده كل شي، بيده الأقوياء, وبيده كل أسباب الأمراض، وبيده السلامة, وبيده السعادة, وبيده الغنى، مع الإيمان بالله ليس هناك شقاء، أكبر سلاح هو سلاح الدعاء، بالدعاء أنت مع الله، أنت تستفيد من قدرة الله, ومن علم الله, ومن رحمة الله, ومن فضل الله، ليس مع الإيمان شقاء أبداً، هذا الإيمان فيه سعادة، سمِّها إن شئت سكينة، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، والله عز وجل قادر أن يهبك السعادة, وأنت في أصعب الأحوال, وأنت على الشوك، أين وجد السعادة أهل الكهف؟
في الكهف، كانوا في القصور فأووا إلى الكهف، فنشر الله لهم من رحمته، ورحمة الله مع الكهف أعظم بكثير من حجب رحمته وأنت في بيت فخم، رحمة الله وأنت في سرير المرض أفضل بكثير من حجب رحمة الله عنك وأنت في صحة تامة، رحمة الله وأنت في الفقر أفضل بكثير من أن تُحجب عنك رحمته وأنت في الغنى، قال تعالى:
3- وكذلك الإنابة من عبادات القلب.
قال تعالى:
﴿
أمر إلهي، ارجع إليه، المؤمن له مرجعية، أعظم مرجع هو الله عز وجل، يحاسب نفسه: يا ربي هل أنت راض عني؟ هل لي عمل لا يرضيك؟ هل هناك خطأ لا أعرفه؟ هل تحبني؟ هل أنت راض عن سلوكي؟ هل أنت راض عن معاملتي للخلق؟ أقم معه علاقة, ناجِه.
جاءني أخ كريم, وقال لي: كنت عند طبيب غير مسلم، طبيب نفسي، حدّثته عن قصتي, وعن مشكلتي النفسية, وأعالج عنده، قال: قال لي: أنت مشكلتك أنك تشعر أن الله لا يحبك، لا بد من أن تناجي ربك, ولا بد من أن تستغفره، ولا بد من أن ترضيه، وإذا سلكت هذا المسلك شفيت من مرضك، فعجب! وهذا كلام حق، أنا ليس عندي حالة صحة نفسية إلا بالقرب من الله عز وجل، إذًا أُمرنا أن نتوكل عليه:
4- الخوف من الله من عبادات القلب.
يا موسى خف ثلاثاً؛ خفني, وخف نفسك, وخف من لا يخافني.
أبعد إنسان عن الله هو الذي لا يخاف الله، طبعاً الذي لا يخاف الله أحمق ومحدود ومطبوع على قلبه، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
حقيقته: أنتم في أمس الحاجة إليها؛ في علاقاتكم اليومية، وفي بيعكم, وشرائكم, وتعاملكم مع كل الجهات القوية، أنا أعتقد أنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تخاف منه فيما بينك ثم يخيفك من أحد خلقه، دقِّق في هذه الكلمة: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تخاف منه فيما بينك ثم يخيفك من أحد خلقه، أما إذا لم تخفه فيما بينك وبينه وتجاوزت حدك لا بد من أحد من خلقه تأديباً لك، أنت إذا خفت من الله خافك كل شيء، وإن لم تخف من الله أخافك من كل شيء، قال تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
هناك علاقات بالقلب رائعة: هناك علاقة طردية وعكسية :
1-
2-
نأتي بمثل :
نقطتان نقطة بينهما، فإذا اتجهت بهذه النقطة إلى اليمين إذا قلّت هذه المسافة، بالمقابل زادت هذه المسافة عن اليسار، إن اتجهت بها إلى اليسار فقلَّت مسافة اليسار زادت مسافة اليمين، هذه اسمها علاقة عكسية .
أما العلاقة الطردية: كلما ارتفعت نسبة الملح في الطعام ارتفعت نسبة الضغط، علاقة الضغط مع الملح علاقة طردية، كلما زدت من الملح ارتفع ضغطك، وكلما قلَّلت من الملح انخفض ضغطك، هذه علاقة طردية .
يبدو أن بين بعض الصفات وبين نتائجها علاقة عكسية، إذا افتقرت إلى الله أصبحت غنياً, إذا خفت من الله أصبحت آمناً، إذا أعلنت جهلك أمام الله أصبحت عالماً، إذا تبرّأت ممن حولك أصبحت محفوظاً من الله عز وجل، الله عز وجل أكثر الصفات معه علاقة عكسية, كلما ازددت تواضعا لله زادك عزاً، كلما ازددَّ افتقاراً له زادك قوة، لذلك قال بعض العارفين:
وما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع .
5- الصدق أيضاً من عبادات القلب .
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ﴾
6- والمحبة أيضاً من عبادات القلب .
لذلك قال سيدنا عمر: تعاهد قلبك.
7- الرضا .
الرضا جاء في القرآن مدح أهله والثناء عليهم، وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن مع الصبر على ما تكرهه النفس خيراً كثيراً))
ورد أيضاً في الأثر: إذا أحببت عبدي ابتليته، فإذا صبر اجتبيته، وإذا شكر اقتنيته.
أب يؤدب ابنه, وبعد هذا التأديب, يأتي ابنه ويقبِّل يد أبيه، يقول له: جزاك الله خيراً عن هذا التأديب، هذا هو الولد البار وهو نادر من أندر الأولاد، كيف المؤمن يسوق الله له المصيبة وقد تؤلمه، لكنه في سجوده يقول: يا ربي لك الحمد على ما ألم بي من مصيبة، فهو ضمن العناية المشددة.
انظر إلى طبيب وجد مع إنسان التهاب معدة حاداً، يعطيه تعليمات شديدة، وإذا وجد معه ورماً خبيثاً منتشراً يتساهل معه، يقول له: كل ما شئت، لما ربنا يؤدِّبك معنى ذلك أنت داخل بالعناية المشددة، لما ربنا يهملك معناه المرض خطير جداً، وبعبارة أخرى إذا الله عز وجل ساق لك مصيبة فهذه محض رحمة منه، محض اهتمام، لذلك الصحابة الكرام يشكرون الله على المصيبة يا ربي لك الحمد، قال الشاعر:
لئن ساءني إن نلتني بمساءة فقد سرَّني أني خطرتُ ببالك
معنى أني ضمن اهتمامك يا ربي، هذه حالة نفسية عالية جداً.
الرضا أعلى مرتبة من عبادات الله، وأسوأ مرتبـــة من حالات القلب أن تسخط على الله عز وجل، الصبر من دون رضا بينهما، أعلى شيء الرضا، وأسفل شيء السخط، و بينهما الصبر من دون رضا.
العلاقة بين الرضا وبين الألم :
هناك أناس أشكل عليهم العلاقة بين الرضا وبين الألم، قد تتألم وأنت راض عن الله، تماماً كما أن المريض الذي يشرب الدواء المر وهو راض عنه، لأنه سبب صحته، كما أن المسلم يصوم رمضان في أيام الصيف, وهو يعطش عطشاً لا حدود له، ويجوع جوعاً شديداً، ومع ذلك راض عن الله في هذا الصيام، لذلك الألم لا يتناقض مع الرضا، هذه ناحية مهمة جداً.
ينبغي أن ترضى عن قضاء الله وقدره, وينبغي أن ترضى عن أمره التشريعي، الصلاة ينبغي أن ترضى بهذه الفريضة، الصوم والحج والزكاة، لو فيها ازدحام ولو فيها حر ولو فيها إنفاق، فينبغي أن ترضى عن أمره التكليفي, وينبغي أن ترضى عن أمره التكويني، الرضا هنا نوعان: عن قضاء الله وقدره، وأن ترضى عن أمره التكليفي.
8- ثم إن الخشوع في الصلاة من عبادات القلب، الخضوع في الصلاة.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فَأَخَفَّ الصَّلَاةَ, قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ قُمْتُ إِلَيْهِ, فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ خَفَّفْتَ, قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا, قَالَ: فَإِنِّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا ))
وقم فصل فإنك لم تصلَّ.
معاصي القلب :
الآن وقفة سريعة عند معاصي القلب : تحدثنا عن عبادات القلب، والآن الحديث عن معاصي القلب: الرياء، الكبر, والعجب, والحسد, والغفلة, والنفاق، الفخر, والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله, والأمن من مكر الله, والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا, وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، و تمني زوال ذلك عنهم, وتوابع هذه الأمور شيء خطير، هي من كبائر القلب وهي كبائر مهلكة.
وعندنا كبائر ظاهرة، الباطنة مهلكة، الكبائر الظاهرة يمكن أن يتوب الإنسان منها، أما الكبائر الباطنة مستحكِمة.
الآن صغائر المحرمات، شهوة المحرمات وتمنيها، ما فعلَها لكن يتمناهـا، هذه معصية القلب، شهوة البدعة فسق، شهوة الكبائر معصية، إن تركها مع القــدرة عليها أثيب ، وإن تركها عجزاً بعد بذله مقدوره لتحصيلها استحق عقوبة فاعلها.
هذه بعض عبادات القلب, وبعض المعاصي الكبيرة منها والصغيرة المتعلقة بالقلب.
سيدنا عمر كان يقول: تعاهد قلبك .
و الحمد لله رب العالمين